الحكاية لا تنتهي
قشرة بندقة
ملتقى الحكائين العرب .. الحكاية وما فيها – مؤمن المحمدى
هي الحكاية، تبدأ منها الأمور، وإليها تنتهي.
وحكايتنا هنا عن رجل، يذهب إلى الصلاة، فيرى درويشا يجلس بالقرب من المسجد، ويصيح: قادر هو الله على أن يضع الدنيا كلها في “قشرة بندقة”.
الرجل يعتبر كلام الدرويش من تخاريف المجذوبين، فينهره، ثم تدخله يد الله في التجربة، ينهض للوضوء، فيجد نفسه قد تحول إلى امرأة على شاطئ نهر، يعثر عليها رجل، يصطحبها لبيته، تموت امرأته، فيتزوج صاحبنا في صورته النسائية، وبعد أن تنجب منه ولدين وبنتا، تخرج للاستحمام في النهر، فتجد نفسها وقد عادت سيرتها الأولى: رجلا يتوضأ استعدادا للصلاة.
عقب الصلاة، يخرج من المسجد ليجد الدرويش ما زال يصيح بأن الله قادر على أن يضع الدنيا كلها في قشرة بندقة، فيقول: “نعم، آمنت”. ينظر له الدرويش نظرة أسى ويقول له: وهل آمنت، إلا بعد أن رزقت بولدين وبنت؟
هذه الحكاية شاهدها وسمعها حضور ملتقى الحكائين العرب بالقاهرة، حكتها بالعامية المصرية الحكاءة المصرية المخضرمة عارفة عبد الرسول، كما وردت بنصها في كتاب “حكايات الدقهلية” الذي يجمع حكايات من إحدى محافظات مصر.
استضاف الملتقى فرقة “الورشة” المسرحية، بالشراكة مع الملتقى التربوى العربى ومشروع “حكايا” الذى يدعمه الاتحاد الأوروبى، في الفترة من 25-29 نوفمبر 2012، وكانت فكرته قائمة على المجاورة مع نخبة من كبار الحكائين في العالم العربي ومن الشباب المصريين.
و”قشرة البندقة” ليس فقط عنوان حكاية، بل هو عنوان الحكاية نفسها، فإذا كان الله قادرا على أن يضع كل هذا العالم في “قشرة بندقة”، فإن ما يصلح بامتياز للعب دور قشرة البندق هذه هو الحكاية، التي اعتبرها حاضرو المجاورة/الملتقى جدة الفنون، إذا كان المسرح هو أبوها، فالحكاية أم المسرح.
كانت فعاليات المجاورة يومية، فعاليتان في كل يوم، الصباح لتبادل الخبرات، والمساء للعرض. كان الهدف تكريس الفترة الصباحية ، من 10 صباحًا إلى 2 ظهرًا، لتبادل الخبرات ،على أن يقوم بالتيسير خلالها حكاء مختلف يوميًا، يعرض نماذجَ من أعماله، ويناقش “المجاورين” حول أساليبهم فى الحكي.
وفى الفترة المسائية، من 7 إلى 10 مساءً، يتم تقديم عروض حكى مشتركة بين حكائين مصريين محترفين وبين الضيوف، وذلك فى حضور جمهور من المهتمين بالحكى، على أمل تطوير شبكة للحكائين المصريين فى إطار شبكة “حكايا”.
في الصباحات كان الموعد مع الأفكار، وظهر واضحا أن الحكائين، والمهتمين بالحكي من حضور الورشة، مشغولون بالحكاية على أكثر من نحو، لم تكن ممارسة الحكي هي فقط ما يجمعهم، بل أسئلة تحتاج إلى التفكير في إجاباتها، مع الإقرار بأنه لا إجابة نهائية صحيحة، كل الإجابات صالحة بشرط الاجتهاد فيها.
كان واحدا من الأسئلة المحورية عن ذلك الخط الفاصل بين الحكاء والممثل، أين يبدأ هذا وأين ينتهي ذلك؟ عارفة عبد الرسول ترى أن الحكاء يستطيع أن يشخص بالصوت أو الإشارة ولكن فى حدود بسيطة، لتصوير الشخصيات وجعلها أكثر قربًا واستيعابًا على ألا يبالغ فى استخدام ذلك، حتى لا يهتم المتلقي بإشاراته وتصويره الصوتى عن الحكاية نفسها، وحتى لا يتداخل حكيه مع “المونودراما”.
وعارفة حكواتية مصرية، وهي واحدة من الحكائين المخضرمين الذين استضافتهم الورشة ليتجاور معها الشباب إلى جانب حكائين كبار آخرين، خرجت من مدينة الإسكندرية، تحديدا حي الحضرة، وقدمت من خلال فرقة الورشة، وبالتعاون مع المخرج حسن الجريتلي، وزوجها المخرج مصطفى درويش، عروضا للحكي على مدار أكثر من 13 عاما، وتنوعت مصادر حكاياتها سواء من بيئتها الأصلية في الإسكندرية، خصوصا حكايات بنت البقال، أو من كتاب الحكي المعروف باسم “حكايات الدقهلية” الذي أعادت الورشة طباعته مؤخرا، وهو تجميع لحكايات من محافظة “الدقهلية” بمصر، وعاصمتها “المنصورة”، صدرت طبعته الأولى في سبعينيات القرن الماضي، 1977 تحديدا، إعداد فتوح أحمد فرج.
وكان لنشأتها في الإسكندرية دور كبير في أدائها لحكايات بنت البقال، وترى أن الحكاية وطن كبير تنصهر فيه كل مكونات المجتمع من رؤى ومفاهيم وعادات وتقاليد، لتشكل في النهاية منظومة قيم حاكمة، تمتلك قدرة هائلة على التأثير بما تحفل به من دلالات لغوية ومجتمعية، وهو ما دفعها للانخراط في مجموعة “عارفة – ناس وفنون” التي تعنى بالفنون وأثرها الاجتماعى، وتعتمد فى عروضها على العلاقه الوطيدة بين فن الحكى والمسرح، هذه العلاقة التى تتمثل فى تبادلية التفاعل والتواصل بين الحكاء والجمهور، كما هو جوهر العملية المسرحية، وذلك كخطوة على طريق البحث عن طرق مختلفة لتقديم الحكاية.
ولأن الحكايا تعد من أهم مصادر تكوين شخصية الفرد والأفراد فى تجمعهم يكونون مجتمعًا فإن حكاياهم وسيرهم الذاتيه هى تأريخ شفهي نستطيع أن نعتمد عليه فى تكوين صورة حقيقية ومكتملة لجوانب الحياة فى فترة ما عاشها مجتمع بعينه .
و”حكايات بنت البقال” هى مجموعة من الحكايا المختارة من السيرة الذاتية للحكواتية عارفة عبد الرسول، التي أضحكت حضور المجاورة بها، كما أبكتهم بحكاية أم الشهيد في ليلة عرض أخرى، وعبرت عارفة عن انطباعها الإيجابي عن المجاورة، وشعورها بضرورة تكرارها، مع إعطاء اهتمام خاص بالفنان نفسه، وبالتفاعل بين الفنانين.
فيما رأت سارة قصير أن الخط الفاصل بين الحكاء والممثل ينبغي أن يكون فاصلا، وأن الحكاء لا ينبغي أن يمثل، ولا حتى ينبغي أن يمثل أنه يحكي، عليه فقط أن يحكي كما يحكي في حياته “الطبيعية”.
سارة فنانة، درست الإعلام، ودرست المسرح، وتسعى أن تضع بصمة خاصة عبر وقفاتها المسرحية ضمن إطار فن الحكواتي مرورا بأعمال تلفزيونية منوعة. وترى أن فن الحكواتي هو فن قديم موجود بكل أرجاء العالم بأشكال مختلفة ومنوعة.
وتوجهها للحكي على الصعيد الشخصي لم يكن توجها إراديا لكن كان هنالك حافز منذ الطفولة، فمجمل قصصها وحكاياتها استمدتها من جدتها أم قاسم والتي تعتبر بالنسبة لها خزانا بشريا للقصة مثل كل النسوة والرجال الكبار في السن.
أمضت سارة سنوات طويلة في جمع الحكايا من أفواه «الختايرة»، على حد تعبيرها، لتعيد إحياءها مباشرة أمام جمهورها بأسلوبها الخاص. لم تدوّن مخزونها الحكائي، بل تعتمد في حفظه على حرارة قلبها من جهة، وعلى فرادة حكاياها من جهة أخرى، وهذا ما تؤكده عندما تصف حكاية جدتها أم قاسم التي أشرنا إليها، والتي أمتعت بها حضور المجاورة فتقول: «لم أجد ما يشبهها في كل التراث العالمي».
ترى الحكواتية اللبنانية أن العالم العربي بصدد إحياء فن الحكواتي الذي كان شبه مندثر، وتتذكر بالرحمة الحكواتي فرانسوا أبو سالم الذي أعاد هذا الفن، وتمتن لبول مطر، وجهاد درويش.
شاركت سارة في الملتقى، وأعربت عن سعادتها به، لاسيما فيما يخص انتقاء الأشخاص، “كان أكثر من ممتاز”، هكذا قالت، وقالت أيضا أنها تفاجأت من الطاقات المبذولة من الجميع، وتمنت تكرار المجاورة، والتوسع في عقد أمثالها، مع إتاحة فرص أكبر لالتقاء الحكائين المخضرمين مع الشباب بمساحات منفردة نحو قدر أكبر من تبادل الخبرات.
ولم تكن الصباحات فقط في مجاورة القاهرة هي المساحة المتاحة للتفاعل بين الحضور، في المساءات كانت العروض حاملة لنوع آخر من التفاعل، عبر تقديم العروض، وإذا كانت عارفة عبد الرسول وسارة قصير قد تشاركتا في ليلة من ليالي المجاورة، فإن ليلة أخرى شهدت لقاء بين اثنين من كبار الحكواتية في العالم العربي، هما سيد رجب، وعمار ماضي.
سيد رجب حكواتي وممثل مصري مخضرم، خاض تجربة ممتدة وعميقة مع فرقة الورشة على الصعيدين: التمثيل والحكي منذ ما يقرب من ربع قرن، وكان أحد المؤدين لحكاية “قشرة البندقة” الواردة بكتاب الدقهلية.
يوما أراد رجب أن يكتب مذكراته، ولأنه كائن متردد كما يصف نفسه، فقد اتخذ القرار أكثر من مرة ولم يدخله حيز التنفيذ ولا مرة، لكنه في النهاية كتب “يوميات الفرماوي”، التي يمكنك أن تعتبرها مذكراته، ويمكنك ألا تعتبرها كذلك، لكنها على أية حال حكايات معاصرة، قدم واحدة منها في ليلة من ليالي المجاورة، وكان رد فعل الحضور كما هي العادة عندما يحكي سيد رجب الانبهار والتعاطف مع الفرماوي كما لو كان شقيقا لكل منهم.
لكن “حكايات الفرماوي” ليست هي الحكاية الوحيدة التي قدمها رجب، فقد قدم تجربة فريدة، قدمتها فرقة الورشة قبل سنوات، وهي “حكاية” السيرة الهلالية. والسيرة كما نعلم مغناة، وألحان السيرة معدودة ومحددة، إلا أن اللحن يضع الحكاية في قالب معين يصعب معه أن تتعامل مع السرد خارج إطار هذا القالب.
وفلسفة الحكي في فرقة الورشة، كما يتحدث عنها حسن الجريتلي مؤسس الورشة، قائمة على التخلص من الموروث في الحكي، حتى يتمكن الحكواتي أن يستخلص نفسه من تراكمات سنوات تحول بينه وبين التعبير عن نفسه، دون إعطاء دلالة ما، وتراث الحكايات الإذاعية التي تتميز بالسذاجة والافتعال، وغيرها من الأشكال التي تجعل الحكواتي لا يحكي، وإنما يحاكي الحكاء المفترض في ذاكرتنا.
هكذا استطاع سيد رجب، عبر تدريب طويل، أن يخلص نفسه أولا من أسر موسيقى السيرة الهلالية، ليستطيع تقديمها لنا بطريقة تخلصنا نحن أيضا من هذا الأسر، وهكذا حتى نصل إلى الحكاية خالصة مخلصة.
ولا يعني هذا بالطبع موقفا من رواية السيرة بألحانها، كما يقدمها مثلا سيد الضوي، آخر رواة السيرة الهلالية، والذي قدم جزءا منها في إحدى ليالي المجاورة، وبالفعل، فإنك تندهش من ذلك الرجل الذي تجاوز الثمانين، ومع ذلك لديه القدرة على الحكي بالربابة لساعتين!
حكي السيرة إذًا من خلال الموسيقى له سحره، أما ما قدمه سيد رجب فكان رقية من هذا السحر، وأنسنة لأبطاله، وانتشالا لهم من محيط الملحمية الهادر الذي ابتلعهم لقرون طويلة.
عمار ماضي كان أيضا هنا، في القاهرة، في ملتقى الحكائين العرب، وعمار هو حكواتي فرنسي من أصل جزائري، أمازيغي، يحكي بالفرنسية والأمازيغية، والجزائرية الدارجة، وعلى عكس الجميع كان يرى أن الحكاء هو ممثل بالدرجة الأولى، وهو يستفيد من كل أدوات المسرح لتقديم حكاياته.
والحكاية عند عمار هي الحكاية، وهي العمر. حكى الفنان في المجاورة حكايات شعبية جزائرية، ذات طابع أخلاقي واضح، غير أنه اعتبر اللغة حاجزا حال دون تقديم حكايات أكثر عمقا، وتركيبا، وأطول زمنا، وأعقد حبكة، وأحدث طابعا. وهو يرى أن الفنان بحاجة إلى كثير من التجهيزات التقنية من حيث الإضاءة وهندسة الصوت حتى يستطيع الأداء على أجمل وجه.
على غير عادة الحكواتية، يخرج ماضي بالحكاية من إطار الفن في أحيان كثيرة، يستخدمها، وفي أطر رسمية، ليحكي بين الأطفال في المدارس، والعجائز في دور المسنين، والمرضى في المستشفيات، وكثيرا ما استخدمها لمحاربة العنصرية، وتذويب الجليد بين أبناء الثقافات المختلفة في فرنسا.
يحكي الفنان المخضرم بحماس عن تجربته في حكي السيرة الهلالية، لا، لم يحكها مثل سيد الضوي في قالب موسيقي، ولا حكاها كحكاية خالصة كما فعل سيد رجب، لكنه يحكيها بالفرنسية على مدار أربع ساعات، ويمكنك أن تلاحظ تغيير نبرة صوته عندما يتحدث عن هذه التجربة خاصة.
كان ارتياح ماضي لتجربة المجاورة باديا عليه، وإن أبدى رغبة شديدة في إيجاد حل للغة، ربما لم تسعفه حصيلته من العربية لمتابعة كل الحوارات مما استلزم الاعتماد على الأصدقاء في كثير من الأحيان في ترجمة ما يدور، وهو ما يفقد الإنسان بالطبع تدفق الحوار والأفكار، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى دهشته من كم الحوارات والأفكار التي تم تبادلها على مدار خمسة أيام فقط لا غير، ومن حماس المجاورين خصوصا الشباب.
وعلى ذكر الشباب، فإن الحضور اللافت لهم كان عاملا من عوامل الثراء، كانت حكايات شادي عاطف مثلا محفزا لكثير من المجاورين للحكاية، شادي يكتب ويحكي حكايات مصرية معاصرة، وهو شاعر إلى جانب كونه حكواتيا، ونرى في حكاياته عن الحارة القاهرية بعدا آخر للقدرة على الحكي، عندما تحكي عما لم تعشه، حكايات من أزمان قديمة نسبيا، لكنها معاصرة في الوقت نفسه، معاصرة لجيل الجد، والحكايات منسوبة للجد، لكنها مكتوبة ومحكية بعين المشاهد مباشرة، هو نموذج آخر للقدرة على التخلص من الأدوات التقليدية للحكاء، واستخلاص المادة الخام للحكاية.
كذلك كانت شهادة سلام يسري عن فرقته “الطمي” ذات طابع إنساني دون كثير محاولة لادعاء أهمية خاصة، تحدث سلام عن ظروف حياتية شخصية، مكنته من أن يتجاوز كثيرا من الضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها كثير من مواطني العالم الثالث عامة، والشرق الأوسط خاصة، لكنها خلقت لديه تساؤلات أكثر إنسانية حول طبيعة الفن، وماهية الحكاية.
وفرقة “طمي” المسرحية هي من الفرق الحديثة التي لاقت استقبالا قويا من الجمهور خاصة لتفرد النوع الفني الذي تقدمه والذي يخلط بين فنون الحكي والغناء والمسرح فكل هذا يمكن أن يظهر في لقطة واحدة.
ويقول سلام إنها تأسست عام 2002 من وتتكون من 15 عضوا من الموسيقيين والفنانين ومعظمهم خريجي كلية الفنون الجميلة. وتعتمد في تقديم أعمالها علي عدد من الفنون مثل الشعر والموسيقي الحية والروايات والقصص عن طريق الحكي. وعلى ما يبدو أن الأمور تبدأ من الحكاية وتنتهي عندها.
في حوارات المجاورة الرئيسية، وفي الحوارات الجانبية، يمكنك أن تلمح نوعا من الأسف لما سببته ظروف الربيع العربي، وتعقد إجراءات الانتقال بين الدول في العالم الثالث، في أن يتغيب عن المجاورة سلمان الناطور الحكواتي الفلسطيني المعروف، الذي ظل على مدار أكثر من ثلاثين عاما يقدم حكايات فلسطينية واقع_خيالية، وإن أرسل حكايات أداها المجاورون في يوم خاص، كذلك الطيب بو عمار مؤسس فرقة “القوالة” والمهرجان الدولى لفنون القص والرواية “الحبة الساحرة”، وهو يحكى باللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية والفرنسية.
غير أن ما عوض هذا، إن كان حضور فنان يعوض غياب آخر، هو الزخم الذي أحدثته ثلاث ليال فارقة بالمجاورة، الأولى هي ليلة الختام، كانت سيوية الطابع والنكهة، فاستمع الحضور إلى حكائين من سيوة، يحكون بالعربية والأمازيغية، ويمزجون بالحكي فنون الاستعراض، وينفردون بألوان خاصة من كل هذا. ومهما كنت متابعا جيدا للفن عبر العالم، كن على استعداد لإضافة الجديد والمدهش إذا كنت على موعد مع ليلة سيوية.
وليلة ثانية قدمت فيها فرقة “الورشة” افتتاحا لعرضها “زوايا” الذي يحوي شهادات من الثورة، ويعتمد على خمس شهادات حية لمشاركين فى الثورة، كل من زاويته الخاصة، شاب الأولتراس، المجرم، ضابط الجيش، محامية حقوقية وأم الشهيد بالطبع. وتخللت الشهادات أغنيات للمطرب والملحن ياسر المغربي.
أما الليلة الثالثة فكانت ليلة عبد الرحيم بن حسن المقوري، وسيد الضوي.
والمقوري من ذلك النوع الذي يصعب الكتابة عنهم، فهو آخر الحكواتية الأسطوريين، وُلد بمراكش سنة 1960، ورغم أن عمره بالكاد يتجاوز الخمسين إلا أنك تشعر أن عمره ألف من السنين.
هو لا يتكلم إلا عندما يحكي حكاية، أو يتحدث عن الحكاية، وهو لا يمارس فعل التنظير إطلاقا، تجده يحكي عن الحكاية كما تحكي أنت عن الحياة، حتى عندما يتحدث عن أبنائه وظروفهم الخاصة، فهو يحكي. إذا سألته عما يود أن تحضره له سيحكي لك عن سيرة يبحث عنها ليحكيها ولا يجد نسخة منها.
عاش المقوري في كنف جدّته التي كانت تروي له قصصًا تراثية في صغره. وحين كبر أصبح يذهب في عطلة نهاية الأسبوع إلى ساحة جامع “الفنا”، وهناك تعرف على “الحلقة” ووجد حكواتيين ورواداً يحكون حكايات، فأصبح مولعاً بفن الحكاية. كان يتغيب كثيراً عن المدرسة ليحضر حلقات “السي الحسين” حتى حفظ مجلَّدين، فعرف منذ ذلك الحين أن مصيره أن يصبح حكواتياً.
لم يكتفِ عبد الرحيم بالقراءة، بل أضاف ما كانت تروي له جدّته حتى أصبح يجلس مع عمالقة الساحة من الرواد، يأخذ منهم الحكمة والمعرفة، وكلما تغيّب الشيخ الطاعن في السن كان عبد الرحيم ينوب عنه ليحكي “الأزلية” حتى لُقّب بـ”الأزلية” وأصبح معروفاً على صعيد المغرب كله.
الطرف الآخر لليلة كان سيد الضوي الذي وإن تحدثنا عنه،إلا أنه ليس كافيا، وهو راوي السيرة الهلالية الذي تعلق بالسيرة منذ أن كان عمره ١٠ سنوات، كان يجلس إلى والده الحاج الضوى وجده الكبير، يطوف معهما فى الموالد والأفراح ويجوب معهما نجوع وقرى صعيد مصر.
وكان الفن الشعبى مسلك العائلة فى السيرة الهلالية التي تستقر فى حوالى ٥ ملايين بيت، واحتفظ الرواة على مر الأجيال بالعدد الأكبر من الأبيات، وبفخر يقول الضوي: «كنت أجلس بجوار الراوى وكان عقلى هو اللى يحفظنى فأنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة، ولكنني كنت أجلس مع والدى الحاج الضوى الكبير والمرحوم جابر أبوحسين وأستمع جيداً وأحفظ عن ظهر قلب ما يقصانه ثم حفظت عن شعراء آخرين من الرواة الأصليين للسيرة أمثال أبو حسن حفنى ومحمد أبوقناوى».
ومع فرقة الورشة اكتسب أداء سيد الضوي للسيرة بعدا فنيا جديدا، ومن الضوي انتقلت “حكاية” السيرة إلى أعضاء الفرقة، بعضهم غناها، ومازال يغنيها، وبعضهم، مثل تجربة سيد رجب، حولها إلى حكايات صافية.
وختاما لكل هذا الزخم، جاء السؤال الأبرز، ولم يكن هذا السؤال الذي طرحه، ببساطته المدهشة، عبد الكريم حيمر في يوم المجاورة الأخير، مجرد سؤال، بل ربما كان معبرا عن رسالة الملتقى نفسه، وهو: لماذا نحكي؟
حيمر من مدينة بسكرة بالجزائر، ويتحدث عن مشاركته في المجاورة بقوله عن نفسه: رغم أنني شاركت في المناسبات المحلية والمهرجانات الوطنية وكذا الدولية وأديت العديد من الأدوار المسرحية وتنشيط الأطفال في الحفلات والعمل في مسرح الطفل بصفة عامة, إلا أنني مازلت أفتقر إلى الخبرة, فانا أريد أن أطور مهاراتي لأنتقل بها إلى مستوى أفضل, وهذا فقط ما يسهل لي الوصول إلى هدفي وهو الاحتراف stand up comedy والذي يعتمد بالدرجة الأولى على الحكي.
أعلم أنه ليس بالأمر السهل لكن سأبذل ما بوسعي لأحقق ما أطمح إليه, فكل ما ينقصني هو بعض المساعدة في تعلم الحكي على أسسه الصحيحة ومعرفة الأخطاء التي يرتكبها الممثل وتعلم كيفية تفاديها عن طريق الحكي بطلاقة والتلاعب بالكلمات دون الخروج عن الموضوع , فليس هناك أحسن من تحصيل الخبرات والتعلم من المحترفين.
هكذا يرى كريم نفسه، وربما كان ذلك هو ما دفعه للتساؤل: لماذا نحكي؟
كانت إجابة كريم نفسه عبارة عن حكاية، وكأن الحكاية تتحدث عن نفسها، حكى كيف كانوا يلعبون الكرة في مدينته، مدينة بسكرة بالجزائر، ومن خلال الحكاية نفهم أن معايير الكرة المعروفة لم تكن موجودة في ملاعب بسكرة، كانوا يلتقون، يلعبون، لا يلتزمون بعدد ما لكل فريق، ولا بمكان ما للمرمى، حتى شكل الملعب لم يكن كالأشكال المعروفة، ففي منتصف الأرض التي يلعبون فيها كان هناك عامود للكهرباء، ولا تيار كهربائي به، ولا يعوقهم هذا عن اللعب .
لم يكن للمباراة وقت معين، كانوا يلعبون على مدار اليوم وقد يغادر أحد اللاعبين الملعب ليذهب إلى بيته، يأكل أو يستريح، لا يستأذن في ذلك أحدا، وعندما يعود يستأنف اللعب فورا .
قد تذهب الكرة بعيدا، فأرضية الملعب لم تكن مستوية، بل متدحرجة، فينتظر اللاعبون أن يحضرها أحدهم، وقد يطول الانتظار، ويجلس اللاعبون يحدقون في المكان الذي ذهبت إليه الكرة، علّها تأتي، بأية طريقة تأتي، وقد يذهبون لإحضارها معا .
بالنسبة لكريم وأصدقائه لا يهمهم سوى اللعب بحد ذاته، اللعب هو الوسيلة والغاية ومحور الحكاية؛ فلا هدف إذًا للحكاية خارجها، الحكي بحد ذاته هدف، وهدف يستحق .
حسن الجريتلي قدم إجابته على نحو مغاير، فحسن يحكي ليتواصل، وكان حديث حسن تأكيد لشهادته وخبرته حول الحكي، وهي التجربة التي سجلها كتابة، وقال فيها:
أقوم بإخراج أعمال فرقة الورشة المسرحية منذ تأسيسها في عام 1987، ومنها عروض “ليالي الورشة” التي طالما تضمنت حواديت شعبية ومشاهد حياتية، بالإضافة إلي فنون شعبية أخرى.
وأقوم كذلك بتدريب كل ممثلي “الورشة” علي الحكي منذ 1992. وقد شاركت منذ 1993 في إعداد نصوص مسرحية اعتمدت الحكي عنصرًا أساسيًّا في الصياغة وفي مهارات التمثيل: “غزير الليل”،”غزل الأعمار”، “حلاوة الدنيا!”.
وقد توليت أيضاً التدريب خلال ورشات حكي مع مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية (الـﭽنا)، المركز العربي للتدريب المسرحي، الملتقي التربوي العربي، مشروع سفر، الملتقي الإبداعي للفرق المستقلة (أوروبا/ البحر المتوسط).
والحكي يلعب دورًا مركزيًّا في حياة شعبنا المصري، فكلنا نحول تفاصيل حياتنا اليومية، بمرها وحلوها، إلي مادة حكي مستساغة،نتواصل من خلال كثافتها الشفهية مع الآخرين.
بينما كنت أدفع حساب تاكسي قبل أن أعبر الطريق إلي “بروڤة “في المجلس البريطاني منذ سنوات طويلة، وقعت عيني على لافتة الفندق المجاور للمجلس “فندق شهر زاد”، فأدركت فجأة أن نشاطنا في مجال الحكي منذ 1992 هو نوع من التأكيد علي قيمة الحياة في مواجهة العبث والموت، مثلما كانت تفعل شهر زاد كل ليلة لكي تعيش إلي الليلة التالية .
الحكي مركزيًُ أيضا في تطوير مهارات ممثلينا، أياً كان أسلوب المسرح الذي نمارسه في مسرحية بعينها. بينما كنت أناقش أحد الممثلين يوماً عن تأثير الحكي في أدائه، قال لي: “أنا أحس الزمن بمقاييس مختلفة أثناء أدائي لدور السلطان سرحان: الزمن التاريخي/ الأسطوري الذي تدور فيه أحداث مسرحية “غزل الأعمار” ( عن ” السيرة الهلالية”)، والزمن الذي يستغرقه العرض حوالي 1.30 ساعة، ثم زمن آخر هو زمن العلاقة التي أحسها بالجمهور بسبب خبرتي في الحكي وهو الزمن الحميمي، الذي لا بداية محددة له ولا نهاية، والذي يشبه الوقت الذي نقضيه مع الأحباب”.
وهناك أخيراً موضوع الحكي في “التنشيط”،وذلك في إطار مشروعات تربوية وتنموية يكون التعبير فيها، من خلال الفن ،عن الإحساس والمشاعر و المتعة، وتتم فيها ممارسة التواصل و الحوار ويُفتح المجال للخيال.
ذلك في مجمله هو الأساس في عملنا كفنانين ومنشطين في المجتمعات المحلية. هكذا يصبح الفن بذاته تنمية وتربية، لا أداة لأجندات اجتماعية لا تتعامل مع طبيعته ولا فوائده الممكنة
التدريب علي الحكي فردي في طبيعته وإن تم جزء منه في إطار جماعي، حيث يمكن أن يستفيد الكل من خبرة وتقييم وتطور كل واحد على حدة . آليات الحكي قليلة، فالأساس في التدريب هو أن ينجح الحكاء في التواصل بشخصيته مع الآخرين، من خلال تصوره وتخيله للقصة التي يحكيها وكأنها شريط سينمائي، وأن يخلق إيقاعاً أساسيا مطمئناً للمتلقين تتوالى علي سطحه أمواج الحكي هادئة حيناً وثائرة أحيانًا، وأن ينجح من خلال الـــ eye contactفي تحقيق الهدف الأبعد الذي يمكن أن نسميه بالــــ I contact.
.
شهادة الجريتلي فتحت الباب، إذا أضفنا إليها حكاية كريم، لفكرة ارتباط الحكاية بالتواصل، وخرجت من خلال الحوار حكاية أخرى عن ذلك العجوز السكندري، نسبة إلى الإسكندرية المصرية، الذي يخرج من بيته، ويركب المواصلات، وهو بلا هدف، فقط ليتجاذب أطراف الحديث، ويحكي.
هل نحكي لنتواصل؟ أم أننا نتواصل لنحكي، أم أن الحكاية هي التواصل نفسه؟ أم أنها قشرة البندقة التي يضع فيها الله العالم أجمع؟